فصل: سُورَةُ الزُّخْرُفِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (27):

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ}.
ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُنَزِّلُ مَا يَشَاءُ تَنْزِيلَهُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَغَيْرِهَا بِقَدَرٍ، أَيْ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ- جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ- جَلَّ وَعَلَا- أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي مِقْدَارِ كَلِّ مَا يُنَزِّلُهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [15/ 21]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [13/ 8]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} الْآيَةَ [24/ 57].

.تفسير الآية رقم (32):

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}.
قَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أَيْ مِنْ عَلَامَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ- الْجَوَارِي وَهِيَ السُّفُنُ، وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [69/ 11] يَعْنِي سَفِينَةَ نُوحٍ، وَسُمِّيَتْ جَارِيَةً لِأَنَّهَا تَجْرِي فِي الْبَحْرِ.
وَقَوْلُهُ: {كَالْأَعْلَامِ}، أَيْ كَالْجِبَالِ، شَبَّهَ السُّفُنَ بِالْجِبَالِ لِعِظَمِهَا.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْأَعْلَامَ الْقُصُورُ، وَعَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ كُلَّ مُرْتَفِعٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ عَلَمًا، وَجَمْعُ الْعَلَمِ أَعْلَامٌ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَلِيلُ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ تَرْثِي أَخَاهَا صَخْرًا:
وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ** كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارٌ

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ جَرَيَانَ السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ مِنْ آيَاتِهِ تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [36/ 41- 44]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [29/ 15]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/ 164]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ [19/ 14]. وَقَوْلِهِ فِي فَاطِرٍ:
{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ [35/ 12]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو الْجَوَارِي بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الرَّاءِ فِي الْوَصْلِ فَقَطْ دُونَ الْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ الْجِوَارِ بِحَذْفِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ مَعًا.

.تفسير الآية رقم (37):

{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ}.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كَبِيرَ الْإِثْمِ، بِكَسْرِ الْبَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَرَاءٌ عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْبَاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ فَهَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ قَبْلَ الرَّاءِ عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ} فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أَيْ وَخَيْرٌ وَأَبْقَى أَيْضًا لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ.
وَالْفَوَاحِشُ جَمْعُ فَاحِشَةٍ. وَالتَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ الْفَوَاحِشَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ أَشْنَعِهَا; لِأَنَّ الْفَاحِشَةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْخَصْلَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْقُبْحِ، وَكُلُّ مُتَشَدِّدٍ فِي شَيْءٍ مُبَالِغٍ فِيهِ فَهُوَ فَاحِشٌ فِيهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي ** عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ

فَقَوْلُهُ: الْفَاحِشُ، أَيِ الْمُبَالِغُ فِي الْبُخْلِ الْمُتَنَاهِي فِيهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ وَعْدِهِ تَعَالَى الصَّادِقِ لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ بِمَا عِنْدَهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ تَكْفِيرَهُ تَعَالَى عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهُمْ، وَإِدْخَالَهُمُ الْمُدْخَلَ الْكَرِيمَ وَهُوَ الْجَنَّةُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [4/ 31]. وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ أَنَّهُمْ بِاجْتِنَابِهِمْ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ- يَصْدُقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ الْمُحْسِنِينَ، وَوَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْحُسْنَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا الْجَنَّةُ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ «الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [10/ 26] كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَآيَةُ النَّجْمِ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [53/ 31]. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [53/ 23].
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّمَمَ}- أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّمَمِ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [4/ 31]. فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ.
وَيَدُلُّ لِهَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تُمَنِّي وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ».
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا اللَّمَمَ} مُنْقَطِعٌ; لِأَنَّ اللَّمَمَ الَّذِي هُوَ الصَّغَائِرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَدْخُلُ فِي الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [19/ 62].
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى إِلَّا اللَّمَمَ إِلَّا أَنْ يَلُمَّ بِفَاحِشَةٍ مَرَّةً، ثُمَّ يَجْتَنِبُهَا وَلَا يَعُودُ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ الرَّاجِزِ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ مَا أَلَمَّا

وَرَوَى هَذَا الْبَيْتَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا. وَفِي صِحَّتِهِ مُرْفُوعًا نَظَرٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِاللَّمَمِ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ هُوَ مَا قَدَّمَنَا لِدَلَالَةِ آيَةِ النِّسَاءِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَبَائِرَ الْإِثْمِ لَيْسَتْ مَحْدُودَةً فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ جَاءَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا، كَالسَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، أَيِ الْمُهَلِكَاتِ لِعِظَمِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذَفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْيِينِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ كَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَاسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبَادِيَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَالسَّرِقَةِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَمَنْعِ فَضْلِ الْكَلَإِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ قَتْلُ الرَّجُلِ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ، ثُمَّ زِنَاهُ بِحَلِيلَةِ جَارِهِ. وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ تَسَبُّبَ الرَّجُلِ فِي سَبِّ وَالِدَيْهِ». وَفِي بَعْضِهَا أَيْضًا «أَنَّ سِبَابَ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالَهُ كُفْرٌ». وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ الْوُقُوعَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ، وَالسَّبَّتَيْنِ بِالسَّبَّةِ».
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ مِنْهَا جَمْعَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ».
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ». وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [12/ 87]. وَقَوْلُهُ: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [7/ 99].
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ». وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [48/ 6].
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْهَا الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ».
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ مِنْهَا الْغَلُولَ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [3/ 161]. وَقَدَّمْنَا مَعْنَى الْغَلُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَذَكَرْنَا حُكْمَ الْغَالِّ.
وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا». وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [3/ 77]. وَلَمْ نَذْكُرْ أَسَانِيدَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَنُصُوصَ مُتُونِهَا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَأَسَانِيدُ بَعْضِهَا لَا تَخْلُو مِنْ نَظَرٍ، لَكِنَّهَا لَا يَكَادُ يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا عَنْ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الصَّحِيحَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ اسْتَوْجَبَ حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ جَاءَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ.
وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَدَّ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا هِيَ كُلُّ ذَنْبٍ دَلَّ عَلَى عَدَمِ اكْتِرَاثِ صَاحِبِهِ بِالدِّينِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْكَبَائِرَ أَقْرَبُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنْهَا إِلَى السَّبْعِ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: التَّحْقِيقُ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ فِي سَبْعٍ، وَأَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهَا سَبْعٌ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَهَا فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ غَيْرِ السَّبْعِ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَالْحَقُّ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ.
وَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَفْهُومُ عَدَدٍ- لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ أَيْضًا; لِأَنَّ زِيَادَةَ الْكَبَائِرِ عَلَى السَّبْعِ مَدْلُولٌ عَلَيْهَا بِالْمَنْطُوقِ.
وَقَدْ جَاءَ مِنْهَا فِي الصَّحِيحِ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعٍ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَفْهُومِ، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ مِنْ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي ضَابِطِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ اقْتَرَنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ مُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ، أَوْ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِيهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ وَتَوْكِيدِهِ.
مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ كَبِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الْآيَةَ [4/ 31]. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا اللَّمَمَ} [53/ 32] يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمَعَاصِي كَبَائِرُ، وَبَعْضَهَا صَغَائِرُ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُه تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الْآيَةَ [16/ 126]. وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الْآيَةَ [39/ 17- 18].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ النَّحْلِ وَآيَةِ الزُّمَرِ الْمَذْكُورَتَيْنِ آنِفًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} الْآيَةَ [7/ 53].

.تفسير الآية رقم (52):

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الْآيَةَ [16/ 2].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ- يُبَيِّنُ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِيهِ مِنَّتَهُ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، بِأَنَّهُ عَلَّمَهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ تَفَاصِيلَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} أَيْ مَا كُنْتَ تَعْلَمُ مَا هُوَ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ، وَمَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ تَفَاصِيلُ هَذَا الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، حَتَّى عَلَّمْتُكَهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ- أَنَّ الْإِيمَانَ شَامِلٌ لِلْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الِاعْتِقَادِ.
وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا» الْحَدِيثَ، فَسَمَّى فِيهِ قِيَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَحَدِيثُ «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً»، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ».
وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، فَهُوَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- مَا كَانَ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَأَوْقَاتَهَا، وَلَا صَوْمَ رَمَضَانَ، وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ تَفَاصِيلَ الزَّكَاةِ وَلَا مَا تَجِبُ فِيهِ وَلَا قَدْرَ النِّصَابِ وَقَدْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ، وَلَا تَفَاصِيلَ الْحَجِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا الْإِيمَانُ}.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ هَذِهِ الْأُمُورَ حَتَّى عَلَّمَهُ إِيَّاهَا بِأَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ هَذَا النُّورَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ كِتَابُ اللَّهِ- جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الْآيَةَ [4/ 113]. وَقَوْلُهُ- جَلَّ وَعَلَا-: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [12/ 3].
فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ يُوسُفَ هَذِهِ: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ، كَقَوْلِهِ هُنَا: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [93/ 7] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [26/ 20]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {جَعَلْنَاهُ} رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا.
وَقَوْلُهُ: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} أَيْ وَلَكِنْ جَعْلَنَا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِنَا.
وَسُمِّي الْقُرْآنُ نُورًا؛ لِأَنَّهُ يُضِيءُ الْحَقَّ وَيُزِيلُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نُورٌ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [4/ 174].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [7/ 157]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [5/ 15- 16]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [64/ 8].
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقُرْآنُ نُورًا- يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكْشِفُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَيَظْهَرُ فِي ضَوْئِهِ الْحَقُّ، وَيَتَمَيَّزُ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ.
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْتَضِيءَ بِنُورِهِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَمْتَثِلَ أَوَامِرَهُ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَعْتَبِرَ بِقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ.
وَالسُّنَّةُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [59/ 7].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ قَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [1/ 6- 7].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي الْآيَةَ، قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} الْآيَةَ [41/ 17]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [28/ 56].
وَالصِّرَاطُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَالْمُسْتَقِيمُ: الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
أمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ ** إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ

.تفسير الآية رقم (53):

{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْأُمُورِ كُلِّهَا تَصِيرُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ تَرْجِعُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا إِلَى غَيْرِهِ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [11/ 123]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [3/ 109- 110]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.سُورَةُ الزُّخْرُفِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (8):

{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [26/ 194- 195]. وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} الْآيَةَ [39/ 28].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهُمْ} عَائِدٌ إِلَى الْقَوْمِ الْمُسْرِفِينَ، الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [43/ 5]. وَفِيهِ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ بِالِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ.
وَقَوْلُهُ: {أَشَدَّ مِنْهُمْ} مَفْعُولٌ بِهِ لِ أَهْلَكَنَا، وَأَصْلُهُ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فَأَهْلَكْنَا قَوْمًا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ** يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ

وَقَوْلُهُ: {بَطْشًا} تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ مِنَ الْفَاعِلِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: وَالْفَاعِلُ الْمَعْنَى انْصَبَنْ بِأَفْعَلَا مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعَلَا مَنْزِلَا وَالْبَطْشُ: أَصْلُهُ الْأَخْذُ بِعُنْفٍ وَشِدَّةٍ.
وَالْمَعْنَى: فَأَهْلَكْنَا قَوْمًا أَشَدَّ بَطْشًا مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، فَلْيَحْذَرِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ كَذَّبُوكَ أَنْ نُهْلِكَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا أَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، أَيْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وعُدَدًا وَجَلَدًا.
فَعَلَى الْأَضْعَفِ الْأَقَلِّ أَنْ يُتَّعَظَ بِإِهْلَاكِ الْأَقْوَى الْأَكْثَرِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ صِفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ إِهْلَاكُهُمُ الْمُسْتَأْصِلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أَيْ عُقُوبَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمُ- رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى ذَلِكَ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ هُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ، لِيَحْذَرُوا أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ مِثْلَ مَا فُعِلَ بِأُولَئِكَ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} الْآيَةَ [30/ 9]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [40/ 82]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} الْآيَةَ [6/ 6]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [34/ 45]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [35/ 44].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَهْدِيدِ كُفَّارِ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَتِهِ، إِهْلَاكُهُمْ وَسُنَّتُهُ فِيهِمُ الَّتِي هِيَ الْعُقُوبَةُ وَعَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [35/ 42- 43]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [40/ 83- 85]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} الْآيَةَ [18/ 55]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [43/ 55- 56].
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} الْآيَةَ [5/ 32].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.